سورة فصلت - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
النزغ: المسّ والنخس، ويراد به ما يكون من لمّة يدخل بها الشيطان على الإنسان ليعد به عن سواء السبيل.
ومناسبة الآية لما قبلها أن الآية السابقة دعت إلى دفع السيئة بالحسنة، وإنه لن يقوم بالوفاء بهذه الدعوة إلّا من كان على درجة عالية من وثاقة الإيمان وقوة العزيمة.. وللشيطان هنا مداخل يدخل بها على من يجمع أمره على دفع السيئة بالحسنة، فيكون له نخسات ينخس بها في صدر المؤمن، كى يخرج به عن هذا الموقف الكريم.. وهنا لا يكون للمؤمن- كى يردّ كيد الشيطان ويخزيه- إلا أن يستعين باللّه منه.. فالاستعاذة باللّه من الشيطان خزى للشيطان، ودحر له، إذ يرى المؤمن وقد دخل في هذا الحمى الذي لا ينال، فيرتدّ مذموما مدحورا.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أي وإن من آيات اللّه السميع العليم، الليل والنهار والشمس والقمر.
فهذه العوالم، هى بعض الآيات التي تشهد بجلال اللّه، وقدرته، وأن المستعيذ باللّه إنما يستعيذ بمالك الملك، ربّ الأرباب، فلا يصل إليه أذّى، ولا يناله مكروه.
و{من} هنا للتبعيض.. أي ومن بعض آيات اللّه الليل والنهار والشمس والقمر.. وهناك آيات كثيرة لا تحصى، وإنما خصت هذه الآيات بالذكر لأنها تجمع الناس جميعا تحت لوائها، وكل إنسان داخل تحت سلطانها طوعا أو كرها.
وقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} نهى عن عبادة هذين فهما بهذا السلطان، قد فتنا كثيرا من الناس، حتى لقد اتخذهما بعض الشعوب آلهة يعبدونها من دون اللّه، في صور وأشكال شتّى من المراسم والطقوس.
وقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أمر بعبادة الإله المستحق للعبادة، وهو الخالق، لا المخلوق.. فالشمس والقمر مما خلق اللّه، وعبادتهما ضلال.
وفى عود الضمير على الشمس والقمر جمعا للمؤنث العاقل في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ} في هذا أكثر من إشارة:
فأولا: الإشارة ضمنا إلى النهى عن عبادة الليل والنهار، لأن النهى عن عبادة الشمس والقمر، يتضمن- من باب أولى- النهى عن عبادة الليل والنهار، إذ كان الليل والنهار من مواليد الشمس، فهذا أشبه بالمخلوقين التابعين لهما، فإذا وقع النهى على عبادتهما، شمل ذلك النهى عن عبادة توابعهما، ولهذا جاء الضمير جمعا: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ}.
وثانيا: الإشارة إلى أن هذه المخلوقات الليل والنهار والشمس والقمر، وإن بدت جمادا صامتا في نظر الإنسان، فإنها عند اللّه سبحانه وتعالى تسمع، وتبصر، وتعقل، وتتلقى أمر اللّه سبحانه وتستجيب له في ولاء مطلق.. ولهذا جاء الضمير للعقلاء.
وثالثا: الإشارة إلى أن هذه العوالم من ليل ونهار، وشمس، وقمر، وإن بدت ذات سلطان قائم على الناس، إلا أنها إلى جانب قدرة اللّه مستسلمة لا تملك من أمرها شيئا.. ولهذا لبست ثوب الأنوثة، الذي يدل غالبا على الضعف، وخاصة عند الجاهلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، في موضع آخر: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [18: الزخرف] وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إشارة إلى أن إخلاص العبادة للّه وحده، هو الذي يعتبر عبادة مقبولة.. أما أن يعبد اللّه في صورة هذه المخلوقات، أو أن تعبد معه هذه المخلوقات تقربا بها إليه، فهذا ليس من عبادة اللّه في شىء.
قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أي إن استكبر هؤلاء المشركون عن عبادة اللّه، وأبوا أن يعطوا ولاءهم خالصا مطلقا له، فاللّه سبحانه وتعالى في غنى عنهم، وإن استكبارهم هذا سيوقعهم تحت غضب اللّه، الذي لا يرجون له وقارا، ولا يخشون له بأسا.. وهذا ضلال مبين منهم، باستخفافهم بقدرة اللّه وبأس اللّه.. فالملائكة الذين هم أقرب خلق اللّه إليه سبحانه- وهم الملائكة المقربون- لم يكن لهم من هذا القرب ما يخليهم من خوف اللّه وخشيته لحظة واحدة، بل لقد كان خوفهم من اللّه وخشيتهم للّه على قدر قربهم منه.. فكلما ازدادوا قربا من اللّه ازدادوا خوفا وخشية، لأنهم يرون من جلال اللّه، ويشهدون من عظمته وقدرته مالا يشهده غيرهم.. وإنه على قدر المعرفة والشهود، تكون الخشية ويكون الولاء، ولهذا فهم يسبحون الليل والنهار، في صورة متصلة دائمة، {لا يسأمون} من هذا التسبيح، ولا يملّون، بل يزدادون مع دوام التسبيح نشاطا وقوة، لما يجدون من لذة ورضا بهذا الذكر المتصل الذي لا ينقطع به أنسهم وحبورهم في مناجاة ربهم.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن آيات اللّه الدّالة على بسطة سلطانه، وكمال قدرته، ما تراه العين من هذه الحياة التي تلبس الأرض الميتة.. فبينما تقع العين على عالم فسيح من الأرض الجديب، والأصقاع الموات الهامدة، إذا هى- وقد أصابها الغيث، وجرى على وجهها الماء- حياة تموج في أعصابها، ودماء تتدفق في شرايينها، وإذا هى جنّات وزروع ونخيل وأعناب.
وقوله تعالى: {تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً} إشارة إلى ضراعة الأرض، في جدبها، ومواتها، وما تكون عليه من شحوب الفقر والمسغبة. إنها أشبه بالكائن الحىّ حين تنقطع عنه موارد حياته، فيضرع ويخشع، ويذل..!
وقوله تعالى: {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} إشارة إلى تلك التفاعلات العجيبة، التي يحدثها التقاء الماء بالأرض الميتة.. فهذا الاهتزاز هو فرحة الحياة التي تسرى في هذا الجسد الهامد، وهذا الرباء والنماء هو من فعل تلك الحرارة التي تملأ كيان هذا الجسد المنكمش المقرور.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو تعقيب على هذه الحقيقة التي يشهدها الناس من أمر الأرض الميتة، وما يلبسها من حياة دافقة، وشباب ناضر.. وإن هذه المقدرة التي أحيت تلك الأرض الميتة، لا يعجزها أن تعيد الأجسام الميتة الهامدة إلى الحياة مرة أخرى.. فهذا من ذاك سواء بسواء: فاللّه سبحانه الذي {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} بقدرته.
{إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هو تهديد لأولئك الذين أشار إليهم سبحانه في قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
وقد هدّدوا من قبل بعذاب اللّه، في قوله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثم ها هم أولاء يتهددهم عذاب اللّه مرة أخرى بعد أن تليت عليهم آيات اللّه، وفيها معارض كثيرة لقدرة اللّه سبحانه، وما تملك هذه القدرة من اقتدار على البعث الذي ينكرونه، ولا يعملون له حسابا.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا} أي الذين يستخفون بها، ويسخرون منها ويتعابثون عند الاستماع إليها- هؤلاء: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} بل إن علم اللّه سبحانه محيط بكل ما يسرون وما يعلنون، لا تخفى على اللّه منهم خافية.. ثم إنهم لمحاسبون، ومجزيون بأسوأ ما كانوا يعملون.
{أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي أفهذا العذاب وهذا البلاء، الذي يلقاه هؤلاء المجرمون- خير، أم جنات الخلد التي وعد المتقون؟ لا يستويان أبدا؟
وفى النظم الذي جاء عليه القرآن هنا من الاختلاف بين المتعادلين، ما يجعل هذا النظم على إيجازه يتسع للكثير من المعاني، حيث يرى في المعادل الأول، أن الذين يلقون في النار لم يلقوا فيها إلا بعد أن قطعوا طريقا طويلا مضنيا إليها، تطلع عليهم فيه المخاوف من كل جانب.. على حين يرى في المعادل الآخر، أن من يأتى آمنا يوم القيامة قد انتهى به هذا الأمن إلى أمن دائم، وهو الجنة التي طابت لأهلها مستقرا ومقاما: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [103: الأنبياء].. {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} [12: الحديد].
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هو تهديد بعد تهديد لهؤلاء المشركين، الذين لا يريدون أن يتحولوا أبدا عن هذا الموقف الضال من آيات اللّه، ومن رسول اللّه.. فليعملوا ما شاءوا.. إن اللّه بما يعملون بصير.. وإنهم لمحاسبون على ما يعملون، ومجزيّون بأسوأ الذي كانوا يعملون.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الذكر: هو القرآن الكريم: وسمى ذكرا، لأنه يذكّر باللّه، ويكشف طريق الهدى إليه.
وخبر {إن} محذوف، وفى حذفه إشارة إلى أن يفسح المكان لكل وارد من واردات العذاب، والبلاء، ولكل صورة من صور الانتقام والنكال فيمكن أن يقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ} سيحشرون على وجوههم إلى جهنم.. لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق- ويمكن أن يقال هنا، كلّ ما جاء في القرآن من صور العذاب والنكال لأهل الكفر، والإلحاد.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} جملة حالية، تكشف عن هذا القرآن الذي يكفر به الكافرون، ويلحدون في آياته.. أي أنهم يكفرون بهذا القرآن مع أنه كتاب عزيز، أي منيع: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وكيف يلم به الباطل من أية جهة، وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}؟ فالحكيم لا يدخل على عمل من أعماله دخل أو فساد، فكيف بأحكم الحاكمين رب العالمين؟ والحميد المستحق لأن يحمد ويمجد، لا يكون حمده وتمجيده إلا لما هو قائم على الحكمة والسداد.. فكيف بمن هو المحمود وحده، حمدا مطلقا في السراء والضراء؟
قوله تعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} أي أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول اللّه إلى عباد اللّه، تحمل دعوة الحق إليهم، أن يؤمنوا باللّه وحده، وألا يشركوا به شيئا.
فهذا هو مجمل رسالة رسل اللّه جميعا، وهو مجمل رسالتك، وعنوانها، وصميمها.. فالقول هنا بمعنى الوحى: أي ما يوحى إليك إلا ما أوحى إلى الرسل من قبلك، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [163- 164: النساء] ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقال ذلك من هؤلاء المشركين من قومك، من تكذيب لك واتهام بالسحر والجنون إلا مثل ما كان يقال للرسل من قبلك من أقوامهم..
وفى هذا عزاء للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.. ودعوة له إلى الصبر على ما يكره من قومه، كما صبر الرسل على ما رماهم به أقوامهم من سوء.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} هو تعقيب على هذا الخبر، وهو أن الرسول ليس بدعا من الرسل، وأنه إنما يدعو بما دعا به رسل اللّه من قبله، من الإيمان باللّه وحده، من غير شريك له.. وفى هذا التعقيب دعوة إلى المشركين إلى الإيمان باللّه، وأنهم إذا آمنوا، وتابوا إلى اللّه، ونفضوا أيديهم مما يعبدون من آلهة، وما يفعلون من منكرات، تقبل اللّه توبتهم، وغفر لهم ما كان منهم.. وفى هذا التعقيب مع هذه الدعوة إلى الإيمان، والإغراء بالمغفرة تهديد بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، لمن لم يستجب لدعوة الإيمان، ولم يرجع إلى اللّه منيبا، تائبا.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} هو مقول القول للّه سبحانه وتعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقال لك إلا هذا القول، وهو: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} وهو ما قيل لكل رسول من قبل.. فهذا هو الإله الذي يدعو إلى الإيمان به كل رسول من رسل اللّه.. إنه ذو مغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وذو عقاب أليم لمن صد عن سبيل اللّه، وكفر به، وسعى في الأرض فسادا.


{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت القرآن الكريم، ونوهت به، وأشارت إلى علو متنزله، وأنه عزيز من عزيز حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتوعدت الذين كفروا به، وألحدوا فيه، فناسب ذلك أن يذكر عن المشركين الذين كفروا بهذا الذكر بعض إلحادهم فيه، وتعلّاتهم عليه، مما كان سببا في صدهم عنه، ومجافاتهم له.
فمن ضلالاتهم أنهم كانوا ينكرون أن يكون الرسول الذي يرسل من عند اللّه إليهم رجلا منهم، يتكلم باللسان الذي يتكلمون به.. إن ذلك ممكن أن يدعيه كل واحد منهم، فما يحدثهم به الرسول على أنه كلام اللّه هو من جنس ما يتكلمون به.
فهل كلام اللّه من جنس كلامهم؟ أهذا مما يعقل؟ وما الدليل على أن هذا كلام اللّه؟ ثم ما الدليل على أن هذا الإنسان هو رسول اللّه؟ وما الجديد الذي جاءهم به؟ إن بضاعته كلها كلام من كلامهم! فإذا كان ثمة كلام من اللّه إليهم، فليكن بلسان غير لسانهم حتى يكون ذلك شاهد صدق على أن ما يحدثهم به محمد ليس من كلامه هو، بل من كلام اللّه.. فهذا أقرب إلى التصديق!! هكذا كان شعورهم نحو القرآن الكريم أول الأمر.. ما إن سمعوه كلاما عربيا مما يتكلمون به، حتى قامت تلك التهم عندهم له، وللرسول الذي جاء به.. ولهذا جاءهم القرآن الكريم بما يكشف عن فساد منطقهم هذا، وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [199: الشعراء] أي أنه لو جاءهم أعجمى لا يتكلم العربية أبدا، فجعله اللّه سبحانه وتعالى رسولا إليهم، يتلو عليهم هذا القرآن بلسان عربى مبين لكان موقفهم معه كموقفهم مع النبي العربي، ولقالوا فيه مقالا، ولما كان نطقه باللسان العربي- وهو الأعجمى- شاهدا يشهد له عندهم بأنه رسول اللّه.. ففى مجال المماحكة والجدل متسع لأهل الزيغ والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الضالين، لو استمعوا إلى آيات اللّه، وعقلوها، ووزنوا كلامهم على ميزانها لوجدوا أن كلامهم بالنسبة إليها أشبه بلكنة الأعاجم ورطاناتهم.
إن الشبهة قائمة عندهم، لا تزول، لو جاءهم القرآن باللسان الأعجمى، كما أنها قائمة عندهم كذلك لو كان الرسول إليهم ملكا لا بشرا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} [9: الأنعام].
فلو جاءهم القرآن الكريم بلسان أعجمى لكانت علّتهم عليه، أنه ليس بلسانهم، وأنهم لا يفهمون هذه الرطانة، ولقالوا: {لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ} أي هلا وضحت آياته، واستبانت مغالق كلماته، حتى نعلم منطوقها ومفهومها؟ وإن لهم في هذا القول لمنطقا لو كانوا يطلبون الحق أو يبتغون الهدى.. وقد ردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: {أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ أي كيف يتفق أن يكون اللسان الأعجمى مفصحا مبينا عند من لا يحسن إلا العربية؟
فإما أن يكون الكلام بغير العربية التي لا يحسنونها، أو بالعربية التي هى لسانهم.. أما أن يكون الكلام غير عربى، ثم ينطق بما يفهمه العربي فهذا ما لا تحتمله طبيعة اللغة، أي لغة..!
وقوله تعالى: {أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} استفهام إنكارى لهذا المقترح الذي يقترحونه على النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو أن يكون اللسان الذي يخاطبهم به لسانا أعجميا عربيا معا!. أي بلغة غير لغتهم، ثم تكون تلك اللغة مفهومة لهم!! قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} أي هذا القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا، يجدون في آياته وكلماته ما يهديهم إلى الحق والخير، وما يذهب بما في عقولهم وقلوبهم من زيغ وضلال.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي أن الذين لا يقبلون الإيمان، ولا تستجيب طبيعتهم له- هؤلاء لا حظ لهم من القرآن، إلا الصمم في آذانهم، وإلا العمى في أعينهم، فلا يسمعون ما يتلى عليهم منه، ولا تستضىء أبصارهم بما فيه من هدى.
فقوله تعالى: {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} متعلق بمحذوف، هو خبر الذين لا يؤمنون.. أي والذين لا يؤمنون يقع في آذانهم صمم عند سماع القرآن.
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي ويرد عليهم من القرآن عمى يصيبهم في أبصارهم وبصائرهم.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.
الإشارة هنا إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون.. وفى الإشارة إليهم مناداة عليهم بما يسوءهم، وإعلامهم بهذا الحكم على مشهد من الناس.
وقوله تعالى: {يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} إشارة إلى أن هؤلاء الذين لا يؤمنون، لا تتقبل طبيعتهم الإيمان ولا تستجيب له.. إذا تلى عليهم القرآن لم يقع لآذانهم التي أصموها عنه إلا كما يقع الصوت الوارد من مكان بعيد، خافتا ضعيفا، غير واضح الدلالة، فلا يتبين السامع شيئا لما سمع.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
هو عزاء للنبى، وتسرية لهمومه التي يعالجها، من خلاف قومه عليه، وإعراضهم عما يتلو عليهم من آيات ربهم.. فهذه ليست حال هؤلاء القوم وحدهم، بل هى حال كثيرين من أهل الضلال، في كل أمة وكل جيل مع رسل اللّه وآيات اللّه.. وأقرب مثل لهذا مالقى موسى من قومه هؤلاء الذين يراهم المشركون بينهم من اليهود.
فلقد آتى اللّه موسى الكتاب، أي التوراة، فيها هدى ونور، {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي فاختلف القوم في هذا الكتاب، ولم يستقيموا على طريق واحد معه، بل تفرقت بهم السبل، فسلك كل فريق شعبة من شعب الضلال، وإذا هم ثلاث وتسعون فرقة، كما جاء في الحديث الشريف.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [4: البينة] ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [19: آل عمران].
وإذن فلا يحزن الرسول الكريم إذا رأى خلاف قومه على هذا الكتاب الذي بين يديه، فكان منهم المؤمنون، وكان منهم الكافرون فتلك هى سنة اللّه في خلقه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} [35: الأنعام].. ثم لا يحزن النبي إذا وقع الخلاف بين المؤمنين، فكانوا فرقا فيما بعد.
فتلك هى سنة اللّه في خلقه.
قوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} تلك الكلمة هى ما وعد اللّه تعالى به النبي صلى اللّه عليه وسلم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما يقول اللّه تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال].
وقوله تعالى: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لو لا هذه الكلمة لأخذهم اللّه بعاجل عذابه، ولأوقع بالظالمين المكذبين بأسه الذي حلّ بالمكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي أن هؤلاء المشركين في شك وارتياب من أمر هذا القرآن، فلم تقع آياته وكلماته موقع اليقين منهم، لأنهم لم يفتحوا آذانهم له، ولم يوجهوا عقولهم وقلوبهم إليه، فلم يستمعوا إليه إلا بآذان صماء، ولم يلقوه إلا بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فكان حكمهم عليه هذا الحكم الفاسد، الذي ملأ قلوبهم شكا وارتيابا.
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
هو عزاء بعد عزاء من اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، ودعوة إليه من ربه سبحانه أن يتخفف من هذا الحزن الذي يجده في نفسه من خلاف قومه عليه، ومن تهافتهم على موارد الهلاك وهو يمسك بحجزهم، ويشدهم إليه، ليأخذ بهم إلى طريق النجاة، وهم يتفلتون منه، ويلقون بأنفسهم بالنار، ويتساقطون فيها تساقط الفراش.. فلا على النبي من بأس، إذا هو بلّغ دعوته فلم يستجب لها هؤلاء المشركون.. {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها}.
فإنهم لو آمنوا وعملوا الصالحات فإنما ذلك لخيرهم، وسعادتهم، وإن هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم فذلك لشؤمهم وشقائهم.. فكل إنسان مجزى بما عمل {لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}.
وقوله تعالى: {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي أنه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، كما يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [40: النساء] كما أنه سبحانه لا يأخذ المطيع بذنب العاصي.. {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [52: الأنعام].
وفى التعبير بصيغة المبالغة في قوله تعالى: {بظلام} إشارة إلى أمور.
أولا: أن كثرة الناس هلكى، وقليل منهم هم الناجون.. هكذا قضت مشيئة اللّه في عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
فلو نظر ناظر إلى كثرة الواردين على جهنم، لداخله شعور بأن هؤلاء الناس واقعون تحت سلطان مستبدّ قاهر- فجاء قوله تعالى: {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} ليدفع ذلك الشعور الخاطئ.
وثانيا: أن العذاب الواقع بأهل الضلال، عذاب شديد، لم يقع في تصور إنسان، فإذا اطلع مطلع على ما يلقى أهل النار من بلاء، خيل إليه أن لا ذنب يستحق هذه العقوبة التي لا يعرفها أحد.. فجاء قوله تعالى {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} ليدفع هذا التصور الخاطئ كذلك.
وثالثا: أن اللّه سبحانه وتعالى يملك التصرف المطلق في عباده، وأنه قادر على أن يضاعف عقاب المذنبين أضعافا كثيرة، وأن يجزى السيئة بعشر أمثالها، كما يجزى الحسنة بعشر أمثالها، ولو فعل ذلك لما كان ظالما، ولا ظلاما، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.. فإن الظالم، أو الظلّام، هو من يعتدى على حقوق الغير، واللّه سبحانه إنما يتصرف فيما يملك، وليس لأحد ملك معه.
ورابعا: تقرر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أن اللّه لا يظلم مثقال ذرة.
كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} [40: النساء] وكما يقول جلّ شأنه: {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [160 الأنعام].
فالظلم منفىّ قطعا عن اللّه سبحانه وتعالى، لأن الذي يظلم إنما يكون في حاجة إلى مزيد مما هو في يد غيره.. واللّه سبحانه وتعالى مالك كل شىء، وبيده كل شىء.. فإلى من يتجه بالظلم وكل شيء ملكه وصنعة يده؟.
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.


{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد توعدت المشركين بقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وهؤلاء المشركون لا يصدقون بيوم القيامة، ولا يؤمنون بالبعث، وكانوا يسألون النبيّ عن يوم البعث سؤال المنكر بقولهم: متى هو؟.
فكانت هذه الآية جوابا عن سؤال يدور في رءوسهم، منكرا هذا اليوم.
وقد جاء الجواب على سبيل القصر، وجعل علم السّاعة من أمر اللّه وحده، لا يعلمها إلا هو، كما يقول اللّه تعالى: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ} [87: الأعراف].
فقوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} حكم قاطع بأن علم الساعة، وتحديد وقتها، هو من أمر اللّه وحده، لا يعلمها إلا هو.
وقوله تعالى: {وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} هو توكيد لعلم اللّه الشامل الذي يقع في محيطه كلّ شيء في هذا الوجود، لا علم الساعة وحده.
فهذه الثمرات التي تخرجها الأرض، هى في علم اللّه.. ثمرة ثمرة، بل قبل أن تكون ثمرة.. فهو سبحانه الذي أخرج نبتها من الأرض، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر، وهو سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر، الثمر، وأنضجه.
والأكمام جمع كمّ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح.
هذا في عالم النبات، وكذلك الشأن في عالم الحيوان والإنسان.. فما حملت أنثى حملا، ولا وضعته، إلا واللّه سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى، وما تضع من حمل، كما يقول سبحانه في آية أخرى: {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ.. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} [8: الرعد].
وعلم اللّه بما تحمل كل أنثى وما تضع من حمل، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم، ما يقع لحواسهم، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان.
فعلم اللّه سبحانه علم قديم، واقع قبل أن يقع الحمل وبعده، وهو علم شامل لكل ذات حمل، ووضع.. على خلاف علم العلماء، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل، ثم هو علم محدود، لا يقع إلا على ما يكون تحت حواسهم، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم، مما في عالم البحار، والطير، والوحش، والهوامّ والحشرات.. وغيرها كثير كثير.. فالعلم الشامل الكامل، هو علم اللّه وحده.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين الضالين: أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب، ويقوم شركاؤهم الذين عبدوهم من دون اللّه، فينطقون عنهم قائلين: {آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي تبرأنا إليك يا اللّه منهم، من قبل أي في الدنيا، وليس الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا، ويقف إلى جوارهم.. وهذا هو بعض السر في التعبير بالفعل الماضي:
{قالُوا} بدلا من يقولون، الذي يعبّر به عما يتوقّع.
يقال: آذنه بكذا.. أي أعلمه وأخبره.
قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}.
أي وغاب عنهم، أي عن هؤلاء العابدين الضالين، ما كانوا يعبدون من دون اللّه، حيث يتلفتون فلا يجدون لهم أثرا في هذا اليوم الذي يرجونهم له.. وأيقنوا أن لا محيص لهم، ولا نجاة من العذاب الواقع بهم، وقد تخلى عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون اللّه.
والظّنّ هنا بمعنى العلم واليقين.
والمحيص: المفرّ، والخلاص من هذا المأزق.
قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ}.
تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها، النفس الإنسانية، وتكشف عن داء الطمع والشّره، وحب الاستكثار من المال والمتاع، المتمكن منها، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ القناعة، أو الشبع.. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع، ازدادت جوعا وطلبا.
كالحوت لا يكفيه شيء يلقمه *** يصبح ظمآن وفى البحر فمه
{لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ} أي لا يمل من طلب الخير لنفسه، من مال ومتاع، وولد، وجاه وسلطان.. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس، ويتنافسون فيه.
وسميت هذه المطالب خيرا، لأنها في أصلها من نعم اللّه، وهى في ذاتها خير، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة، تكون فتنة وبلاء.
والمراد بدعاء الخير، هو طلبه واستدعاؤه، والسّعى الجادّ لتحصيله، لأنّ هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان، لأنها غائبة عنه، فهو يستدعيها إليه، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه، وتدنو منه.
{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} أي وإن ألمّ به الشرّ- مجرد إلمام، مع هذه النعم الكثيرة التي بين يديه- جأر بالشكوى، وعلا صياحه بالسخط والضيق، وكاد يؤدّى به ذلك إلى إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة اللّه، سيىء الظن بفضل اللّه وإحسانه.
فهذا موقف من لا يؤمن باللّه، ولا يحسن الظن به، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه.. إنه يقيس الأمور ويقدّرها، حسب مجرياتها بالنسبة له، وحسب الأسباب التي بين يديه منها، غير ناظر إلى قدرة اللّه، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته.
أما للؤمن الذي يعمر الإيمان باللّه قلبه، فإنه إذ يسعى سعيه في الحياة، يتقبّل في رضى واستسلام، كلّ ما يقع له من خير أو شر.. فهو مع الخير قانع، راض، شاكر، ومع الضّر صابر، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب، لا يبيت في كل شدة إلا مع أمل، في رحمة من ربه تكشف هذا الضرّ الذي نزل به.. {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [87: يوسف].
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ}.
أي أن هذا الإنسان الذي مسه الضر، فبات يائسا قانطا من رحمة اللّه- إذا أذاقه اللّه سبحانه رحمة منه، وكشف عنه الضر الذي مسه، لم يجعل هذا إلى اللّه سبحانه، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه، بل يزيّن له ضلاله وغروره، أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضرّ- هو من عمله، وحسن تدبيره، فيقول: {هذا لِي} أي هذا من كسبى، وحسن تدبيرى، فهو لى، وليس للّه فيه شىء، فلا يكون منه حمد للّه، ولا ذكر لفضله وإحسانه.. ثم يمضى في غروره وضلاله، فيدخل على نفسه الشكّ في أمر البعث والحساب والجزاء، كى يطلق العنان لشهواته ونزواته، غير عامل أي حساب ليوم الحساب: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}!.
ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك في يوم القيامة، وغرسها في مشاعره، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة، والأمانىّ الباطلة، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها، ثم أزهرت وأثمرت.. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى}! هكذا ينتقل به الضلال، من وهم إلى وهم، ومن خداع إلى خداع، حتى يرد موارد الهلاك!.
{وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}!.
إنه مجرد ظنّ! يحتمل أن تقوم الساعة، أو لا تقوم!.
وماذا لو قامت الساعة!.
إنه لا خوف عليه منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند اللّه في الآخرة- إن كانت هناك آخرة- مثل ما كان له في الدنيا أو أكثر!!.
وهكذا يزين الضلال لأهله! وقد أبطل اللّه سبحانه هذه الأمانى الباطلة، وردّها على أهلها حسرة وندامة، فقال سبحانه: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ}.
فهذا ما يلقاه الكافرون في هذا اليوم.. إنهم سيلقون أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم، وسيحاسبون عليها، ثم يقضى عليهم بالعذاب الغليظ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، خالدين فيه أبدا.
قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ}.
وهذه صورة من صور الإنسان، ومكره بنعم ربه.. وكفره بإحسانه إليه.
فهذا الإنسان- وله في الإنسانية أشباه كثيرون- إذا أنعم اللّه عليه نعمة منه، شغل بالحياة مع هذه النعمة عن اللّه، ونسى ما للّه من حقوق عليه، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ من هذه النعمة سلاحا يحارب به اللّه سبحانه، ليفسد في الأرض، ويقطع ما أمر اللّه به أن يوصل.
فإذا مسّ هذا الإنسان ضرّ، عاد إلى اللّه، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق، لئن أنجاه اللّه من هذا البلاء، وكشف عنه هذا الضرّ، ليكونن من المؤمنين الشاكرين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى اللّه، والإنابة إليه.
إنه لا يذكر اللّه ولا يعرفه إلّا في الشدّة.. أما في الرخاء. فهو معرض عن اللّه، أو محارب للّه.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}.
هو رد على تلك الأمانى الباطلة، التي يعيش فيها أهل الغواية والضلال، ممن يقيمون أمرهم في الإيمان باليوم الآخر- على حرف.. فيقولون إن كانت هناك آخرة- ولا نظن- فإن لنا عند اللّه هناك ما كان لنا في الدنيا، من مال وجاه وسلطان.. وإن لم تكن آخرة- وهو ما نظن- فقد أخذنا أمرنا على هذا، فلا يضيرنا أنه لم يجىء هذا اليوم، فليس لنا شيء فيه، ولا متعلّق لنا به.
وهنا في هذه الآية يكشف اللّه سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول اللّه، ومن كتاب اللّه الذي بين يديه.. فهم في شك من رسول اللّه، وفى حيرة من أمرهم فيه، بين التصديق والتكذيب، أشبه بهذه الظنون التي تدور في رءوس المشركين عن يوم البعث، وقد جاءهم القرآن، وهم على هذا الشعور، يحاسبهم به، ويسفّه منطقهم فيه.
فهم قد وقفوا من الرسول موقف الشك والارتياب، بين التصديق والتكذيب، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم الآخر.. فليكن هذا.!
ولكن لما ذا يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل، يريد الهجوم عليهم- هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك، في هذا الخبر، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو.. فإن كان هناك عدو، كانوا قد أعدوا العدة للقائه، فلم يبغتهم بخيله ورجله.. وإن لم يكن هناك عدوّ، فلا خسران عليهم فيما فعلوا.
وهنا، إنسان يقول لهم: إنه رسول اللّه، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم يدعوهم فيه إلى الإيمان باللّه، واليوم الآخر، وينذرهم عذاب يوم عظيم، هو يوم القيامة.
وهذا الرسول، إما أن يكون صادقا، أو كاذبا.
فإن هم أقاموا أمرهم معه على أنه صادق، وآمنوا باللّه وباليوم الآخر، وأعدّوا العدة للقاء هذا اليوم، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم.. وإن كان كاذبا، فما خسروا شيئا.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله جل شأنه، على لسان مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [28: غافر].
وفى هذا المعنى يقول أبو العلاء المعرى:
قال المنجّم والطبيب كلاهما *** لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر *** أو صحّ قولى فالخسار عليكما
وقوله تعالى: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}.
الاسم الموصول {مِنْ} مفعول به لقوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ} أي أعلمتم من أضل منكم، إن كان هذا الرسول من عند اللّه، ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى: {إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} جملة اعتراضية شرطية، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه السياق.
وقد جىء بهم مع ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب في قوله تعالى: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} ليروا بأعينهم العبرة في هذا الذي يعرض عليهم من أهل الشقاق، وهو صورة منتزعة منهم.. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا في وجه هذا الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم في شخصه.
ولو جاء النظم هكذا: قل أرأيتم من أضل منكم إن كان هذا الرسول من عند اللّه، ثم كفرتم به- لنفروا نفار الحمر الوحشية، ولما استقبلوا هذه الدعوة التي يدعون إليها، إلا بالصد والإعراض، أو بالسب والشمّ، فيفوت بذلك الغرض المقصود من الإمساك بهم في هذا الموقف، لينظروا في تلك المرآة، التي يرون شخوصهم مائلة فيها! قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ..}.
أي أن هؤلاء المشركين، الذين شكّوا في رسول اللّه، وفى آيات اللّه التي بين يديه- سيريهم اللّه آياته في الآفاق البعيدة عنهم، وفى ذات أنفسهم، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها، أن هذا الرسول حق، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ.
والآيات التي رآها المشركون في الآفاق وفى أنفسهم كثيرة.. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة الإسلام في المدينة، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار.. ومنها ازدياد قوة الإسلام، وشوكة المسلمين، يوما بعد يوم.. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة، وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب.. ومنها جلاء اليهود عن المدينة، وإنزالهم من صياصيهم.. ومنها فتح خيبر.. ثم منها فتح مكة.. ففى هذه الآيات رأى كثير من المشركين أن هذا الدين هو دين اللّه، وأن الرسول رسول اللّه، وأن الكتاب كتاب اللّه، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام، ويدخلون في دين اللّه أفواجا.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
هو دعوة للنبىّ الكريم أن يصبر على أذى قومه، وعلى موقفهم المتعنت منه وحسبه في هذا أن اللّه شهيد على ما يعملون، وسيجزيهم عليه.
قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}.
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين، ويفسد عليهم رأيهم في رسول اللّه، وفيما يدعوهم إليه، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث، واستبعادهم إعادة الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا.
وفى قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ} إخبار من اللّه سبحانه وتعالى بما في نفوس هؤلاء المشركين من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا في شك من لقاء ربّهم، ومن محاسبتهم ومجازاتهم على ما يعملون في دنياهم.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}.
تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم في لقاء ربّهم يوم القيامة، حيث يرون أعمالهم، وقد أحصاها اللّه عليهم، وحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة منها.. فاللّه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء علما.

1 | 2 | 3